سورة البقرة - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


يكاد: مضارع كاد التي هي من أفعال المقاربة، ووزنها فعل يفعل، نحو خاف يخاف، منقلبة عن واو، وفيها لغتان: فعل كما ذكرناه، وفعل، ولذلك إذا اتصل بها ضمير الرفع لمتكلم أو مخاطب أو نون إناث ضموا الكاف فقالوا: كدت، وكدت، وكدن، وسمع نقل كسر الواو إلى الكاف، مع ما إسناده لغير ما ذكر قول الشاعر:
وكيدت ضباع القف يأكلن جثتي *** وكيد خراش عند ذلك ييتم
يريد، وكادت، وكاد، وليس، من أفعال المقاربة ما يستعمل منها مضارع إلا: كاد، وأوشك. وهذه الأفعال هي من باب كان، ترفع الإسم وتنصب الخبر، إلا أن خبرها لا يكون إلا مضارعاً، ولها باب معقود في النحو، وهي نحو من ثلاثين فعلاً ذكرها أبو إسحاق البهاري في كتابه (شرح جمل الزجاجي). وقال بعض المفسرين: يكاد فعل ينفي المعنى مع إيجابه ويوجبه مع النفي، وقد أنشدوا في ذلك شعراً يلغز فيه بها، وهذا الذي ذكر هذا المفسر هو مذهب أبي الفتح وغيره، والصحيح عند أصحابنا أنها كسائر الأفعال في أن نفيها نفي وإيجابها إيجاب، والاحتجاج للمذهبين مذكور في كتب النحو. الخطف: أخذ الشيء بسرعة. كل: للعموم، وهو اسم جمع لازم للإضافة، إلا أن ما أضيف إليه يجوز حذفه ويعوض منه التنوين، وقيل: هو تنوين الصرف، وإذا كان المحذوف معرفة بقيت كل على تعريفها بالإضافة، فيجيء منها الحال، ولا تعرف باللام عند الأكثرين، وأجاز ذلك الأخفش، والفارسي، وربما انتصب حالاً، والأصل فيها أن تتبع توكيداً كأجمع، وتستعمل مبتدأ، وكونها كذلك أحسن من كونها مفعولاً، وليس ذلك بمقصور على السماع ولا مختصاً بالشعر خلافاً لزاعمه. وإذا أضيفت كل إلى نكرة أو معرفة بلام الجنس حسن أن تلي العوامل اللفظية، وإذا ابتدئ بها مضافة لفظاً إلى نكرة طابقت الأخبار وغيرها ما تضاف إليه وإلى معرفة، فالأفصح إفراد العائد أو معنى لا لفظاً، فالأصل، وقد يحسن الإفراد وأحكام كل كثيرة. وقد ذكرنا أكثرها في كتابنا الكبير الذي سميناه بالتذكرة، وسردنا منها جملة لينتفع بها، فإنها تكررت في القرآن كثيراً.
المشي: الحركة المعروفة. لو: عبارة سيبويه، إنها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وهو أحسن من قول النحويين إنها حرف امتناع لامتناع لاطراد تفسير سيبويه، رحمه الله، في كل مكان جاءت فيه لو، وانخرام تفسيرهم في نحو: لو كان هذا إنساناً لكان حيواناً، إذ على تفسير الإمام يكون المعنى ثبوت الحيوانية على تقدير ثبوت الإنسانية، إذ الأخص مستلزم الأعم، وعلى تفسيرهم ينخرم ذلك، إذ يكون المعنى ممتنع الحيوانية لأجل امتناع الإنسانية، وليس بصحيح، إذ لا يلزم من انتفاء الإنسانية انتفاء الحيوانية، إذ توجد الحيوانية ولا إنسانية.
وتكون لو أيضاً شرطاً في المستقبل بمعنى أن، ولا يجوز الجزم بها خلافاً لقوم، قال الشاعر:
لا يلفك الراجوك إلا مظهرا *** خلق الكرام ولو تكون عديماً
وتشرب لو معنى التمني، وسيأتي الكلام على ذلك عند قوله تعالى: {فلو أن لنا كرة فتبرأ منهم} إن شاء الله تعالى، ولا تكون موصولة بمعنى أن خلافاً لزاعم ذلك. شاء: بمعنى أراد، وحذف مفعولها جائز لفهم المعنى، وأكثر ما يحذف مع لو، لدلالة الجواب عليه. قال الزمخشري: ولقد تكاثر هذا الحدف في شاء وأراد، يعني حذف مفعوليهما، قال: لا يكادون يبرزون هذا المفعول إلا في الشيء المستغرب، نحو قوله:
فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته ***
وقوله تعالى: {لو أرادنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه} و{لو راد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى} انتهى كلامه. قال صاحب التبيان، وذلك بعد أن أنشد قوله:
فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته *** عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
متى كان مفعول المشيئة عظيماً أو غريباً، كان الأحسن أن يذكر نحو: لو شئت أن ألقى الخليفة كل يوم لقيته، وسر ذكره أن السامع منكر لذلك، أو كالمنكر، فأنت تقصد إلى إثباته عنده، فإن لم يكن منكراً فالحذف نحو: لو شئت قمت. وفي التنزيل: {لو نشاء لقلنا مثل هذا} انتهى. وهو موافق لكلام الزمخشري. وليس ذلك عندي على ما ذهبنا إليه من أنه إذا كان في مفعول المشيئة غرابة حسن ذكره، وإنما حسن ذكره في الآية والبيت من حيث عود الضمير، إذ لو لم يذكر لم يكن للضمير ما يعود عليه، فهما تركيبان فصيحان، وإن كان أحدهما أكثر. فأحدهما الحذف ودلالة الجواب على المحذوف، إذ يكون المحذوف مصدراً دل عليه الجواب، وإذا كانوا قد حذفوا أحد جزأي الإسناد، وهو الخبر في نحو: لولا زيد لأكرمتك، للطول بالجواب، وإن كان المحذوف من غير جنس المثبت فلأن يحذف المفعول الذي هو فضلة لدلالة الجواب عليه، إذ هو مقدر من جنس المثبت أولى. والثاني: أن يذكر مفعول المشيئة فيحتاج أن يكون في الجواب ضمير يعود على ما قبله، نحو قوله تعالى: {لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه} وقول الشاعر:
فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته ***
وأما إذا لم يدل على حذفه دليل فلا يحذف نحو قوله تعالى: {لمن شاء منكم أن يستقيم} {لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر}. الشيء: ما صح أن يعلم من وجه ويخبر عنه قال سيبويه رحمه الله وإنما يخرج التأنيث من التذكير ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أو أنثى؟ والشيء مذكر وهو عندنا مرادف للموجود وفي إطلاقه على المعدوم بطريق الحقيقة خلاف ومن أطلق ذلك عليه فهو أنكر النكرات إذ يطلق على الجسم والعرض والقديم والمعدوم والمستحيل.
القدرة: القوة على الشيء والاستطاعة له، والفعل قدر ومصادره كثيرة: قدر، قدرة، وبتثليث القاف، ومقدرة، وبتثليث الدال: وقدر، أو قدر، أو قدر، أو قدار، أو قدار، أو قدراناً، ومقدراً، ومقدراً.
الجملة من قوله: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} لا موضع لها من الإعراب إذ هي مستأنفة جواب قائل قال: فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ فقيل: {يكاد البرق يخطف أبصارهم}، ويحتمل أن تكون في موضع جر صفة لذوي المحذوفة التقدير كائد البرق يخطف أبصارهم، والألف واللام في البرق للعهد، إذ جرى ذكره نكرة في قوله: {فيه ظلمات ورعد وبرق}، فصار نظير: لقيت رجلاً فضربت الرجل، وقوله تعالى: {أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول} وقرأ مجاهد، وعلي بن الحسين، ويحيى بن زيد: يخطف بسكون الخاء وكسر الطاء، قال ابن مجاهد: وأظنه غلطاً واستدل على ذلك بأن أحداً لم يقرأ بالفتح إلا من خطِف الخطفة. وقال الزمخشري: الفتح، يعني في المضارع أفصح، انتهى. والكسر في طاء الماضي لغة قريش، وهي أفصح، وبعض العرب يقول: خطف بفتح الطاء، يخطف بالكسر. قال ابن عطية، ونسب المهدوي هذه القراءة إلى الحسن وأبي رجاء، وذلك وهم. وقرأ علي، وابن مسعود: يختطف. وقرأ أُبي: يتخطف. وقرأ الحسن أيضاً: يخطف، بفتح الياء والخاء والطاء المشددة. وقرأ الحسن أيضاً، والجحدري، وابن أبي إسحاق: يخطف، بفتح الياء والخاء وتشديد الطاء المكسورة، وأصله يختطف. وقرأ الحسن أيضاً، وأبو رجاء، وعاصم الجحدري، وقتادة: يخطف، بفتح الياء وكسر الخاء والطاء المشددة. وقرأ أيضاً الحسن، والأعمش: يخطف، بكسر الثلاثة وتشديد الطاء. وقرأ زيد بن علي: يخطف، بضم الياء وفتح الخاء وكسر الطاء المشددة من خطف، وهو تكثير مبالغة لا تعدية. وقرأ بعض أهل المدينة: يخطف، بفتح الياء وسكون الخاء وتشديد الطاء المكسورة، والتحقيق أنه اختلاس لفتحة الخاء لا إسكان، لأنه يؤدّي إلى التقاء الساكنين على غير حد التقائهما.
فهذا الحرف قرئ عشر قراءات: السبعة يخطف، والشواذ: يخطف يختطف يتخطف يخطف وأصله يتخطف، فحذف التاء مع الياء شذوذاً، كما حذفها مع التاء قياساً. يخطف يخطف يخطف يخطف، والأربع الأخر أصلها يختطف فعرض إدغام التاء في الطاء فسكنت التاء للإدغام فلزم تحريك ما قبلها، فإما بحركة التاء، وهي الفتح مبينة أو مختلسة، أو بحركة التقاء الساكنين، وهي الكسر. وكسر الياء اتباع لكسرة الخاء، وهذه مسألة إدغام اختصم به، وهي مسألة تصريفية يختلف فيها اسم الفاعل واسم المفعول والمصدر، وتبيين ذلك في علم التصريف. ومن فسر البرق بالزجر والوعيد قال: يكاد ذلك يصيبهم. ومن مثله بحجج القرآن وبراهينه الساطعة قال: المعنى يكاد ذلك يبهرهم.
وكل: منصوب على الظرف وسرت إليه الظرفية من إضافته لما المصدرية الظرفية لأنك إذا قلت: ما صحبتني أكرمتك، فالمعنى مدّة صحبتك لي أكرمك، وغالب ما توصل به ما هذه بالفعل الماضي، وما الظرفية يراد بها العموم، فإذا قلت: أصحبك ما ذر لله شارق، فإنما تريد العموم.
فكل هذه أكدت العموم الذي أفادته ما الظرفية، ولا يراد في لسان العرب مطلق الفعل الواقع صلة لما، فيكتفى فيه بمرة واحدة، ولدلالتها على عموم الزمان جزم بها بعض العرب. والتكرار الذي يذكره أهل أصول الفقه والفقهاء في كلما، إنما ذلك فيها من العموم، لا إن لفظ كلما وضع للتكرار، كما يدل عليه كلامهم، وإنما جاءت كل توكيداً للعموم المستفاد من ما الظرفية، فإذا قلت: كلما جئتني أكرمتك، فالمعنى أكرمك في كل فرد فرد من جيئاتك إلي. وما أضاء: في موضع خفض بالإضافة، إذ التقدير كل إضاءة، وهو على حذف مضاف أيضاً، معناه: كلّ وقت إضاءة، فقام المصدر مقام الظرف، كما قالوا: جئتك خفوق النجم. والعامل في كلما قوله: مشوا فيه، وأضاء عند المبرد هنا متعد التقدير، كلما أضاء لهم البرق الطريق. فيحتمل على هذا أن يكون الضمير في فيه عائداً على المفعول المحذوف، ويحتمل أن يعود على البرق، أي مشوا في نوره ومطرح لمعانه، ويتعين عوده على البرق فيمن جعل أضاء لازماً، أي: كلما لمع البرق مشوا في نوره، ويؤيد هذا قراءة ابن أبي عبلة: كلما ضاء ثلاثياً، وقد تقدّم أنها لغة. وفي مصحف أُبيّ: مرّوا فيه، وفي مصحف ابن مسعود: مضوا فيه. وهذه الجملة استئناف ثالث كأنه قيل: فأضاء لهم في حالتي وميض البرق وخفائه، قيل: كلما أضاء لهم إلى آخره.
وقرأ يزيد بن قطيب والضحاك: وإذا أظلم مبنياً للمفعول، وأصل أظلم أن لا يتعَدّى، يقال: أظلم الليل. وظاهر كلام الزمخشري أن أظلم يكون متعدياً بنفسه لمفعول، فلذلك جاز أن يبنى لما لم يسم فاعله. قال الزمخشري: أظلم على ما لم يسم فاعله، وجاء في شعر حبيب بن أوس الطائي:
هما أظلما حاليّ ثمت أجليا *** ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب
وهو أن كان محدثاً لا يستشهد بشعره في اللغة، فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه. ألا ترى إلى قول العلماء الدليل عليه بيت الحماسة، فيقتنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه، انتهى كلامه. فظاهره كما قلنا أنه متعدّ وبناؤه لما لم يسم فاعله، ولذلك استأنس يقول أبي تمام: هما أظلما حالي، وله عندي تخريج غير ما ذكر الزمخشري، وهو أن يكون أظلم غير متعدّ بنفسه لمفعول، ولكنه يتعدّى بحرف جر. ألا ترى كيف عدى أظلم إلى المجرور بعلى؟ فعلى هذا يكون الذي قام مقام الفاعل أو حذف هو الجار والمجرور، فيكون في موضع رفع، وكان الأصل: وإذا أظلم الليل عليهم، ثم حذف، فقام الجار والمجرور مقامه، نحو: غضب زيد علي عمرو، ثم تحذف زيداً وتبني الفعل للمفعول فتقول: غضب على عمرو، فليس يكون التقدير إذ ذاك: وإذا أظلم الله الليل، فحذفت الجلالة وأقيم ضمير الليل مقام الفاعل.
وأما ما وقع في كلام حبيب فلا يستشهد به، وقد نقد على أبي علي الفارسي الاستشهاد بقول حبيب:
من كان مرعى عزمه وهمومه *** روض الأماني لم يزل مهزولا
وكيف يستشهد بكلام من هو مولد، وقد صنف الناس فيما وقع له من اللحن في شعره؟ ومعنى قاموا: ثبتوا ووقفوا، وصدرت الجملة الأولى بكلما، والثانية بإذا. قال الزمخشري: لأنهم حراص على وجود ما هممهم به معقودة من إمكان المشي وتأتيه، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها، وليس كذلك التوقف والتحبس، انتهى كلامه. ولا فرق في هذه الآية عندي بين كلما وإذا من جهة المعنى، لأنه متى فهم التكرار من: {كلما أضاء لهم مشوا فيه} لزم منه أيضاً التكرار في أنه إذا أظلم عليهم قاموا، لأن الأمر دائر بين إضاءة البرق والإظلام، فمتى وجد هذا فقد هذا، فيلزم من تكرار وجود هذا تكرار عدم هذا، على أن من النحويين من ذهب إلى أن إذاً تدل على التكرار ككلما، وأنشد:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي *** أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
قال: فهذا معناه معنى كلما.
وفي تأويل هذه الآية أقوال. قال ابن عباس والسدي: كلما أتاهم القرآن بما يحبونه تابعوه. وقال قتادة: إضاءة البرق حصول ما يرجونه من سلامة نفوسهم وأموالهم، فيسرعون إلى متابعته. وقال مقاتل: البرق الإسلام، ومشيهم فيه إهتداؤهم، فإذا تركوا ذلك وقعوا في ضلالهم. وقيل: إضاءته لهم: تركهم بلا ابتلاء، ومشيهم فيه: إقامتهم على المسالمة بإظهار ما يظهرونه، وقيل: كلما سمع المنافقون القرآن وحججه أنسوا ومشوا معه، فإذا نزل ما يعمون فيه أو يكلفونه قاموا، أي ثبتوا على نفاقهم. وقيل: كلما توالت عليهم النعم قالوا: دين حق، وإذا نزلت بهم مصيبة سخطوا وثبتوا على نفاقهم. وقيل: كلما خفي نفاقهم مشوا، فإذا افتضحوا قاموا، وقيل: كلما أضاء لهم الحق اتبعوه، فإذا أظلم عليهم بالهوى تركوه. وقيل: ينتفعون بإظهار الإيمان، فإذا وردت محنة أو شدة على المسلمين تحيروا، كما قام أولئك في الظلمات متحيرين. قال الزمخشري: وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون، إذا صادفوا من البرق خفقة مع خوف أن يخطف أبصارهم، انتهزوا تلك الخفقة فرصة فحطوا خطوات يسيرة، فإذا خفي وفتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة، انتهى كلامه.
ومفعول شاء هنا محذوف للدلالة عليه التقدير: ولو شاء الله إذهاب سمعهم وأبصارهم. والكلام في الباء في بسمعهم كالكلام فيها في: {ذهب الله بنورهم}، وتوحيد السمع تقدم الكلام عليه عند الكلام على قوله: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم}.
وقرأ ابن أبي عبلة: لأذهب بأسماعهم وأبصارهم، فالباء زائدة التقدير لأذهب أسماعهم، كما قال بعضهم: مسحت برأسه، يريد رأسه، وخشنت بصدره، يريد صدره، وليس من مواضع قياس زيادة الباء، وجمعه الإسماع مطابق لجمع الإبصار. ومعنى الجملة: أن ذهاب الله بسمعهم وأبصارهم كان يقع على تقدير مشيئة الله ذلك. وقيل: المعنى لإهلاكهم، لأن في هلاكهم ذهاب سمعهم وأبصارهم. وقيل: وعيد بإذهاب الأسماع والأبصار من أجسادهم حتى لا يتوصلوا بهما إلى مالهم، كما لم يتوصلوا بهما إلى ما عليهم. وقيل: لأظهر عليهم بنفاقهم فذهب منهم عز الإسلام. وقيل: لأذهب أسماعهم فلا يسمعون الصواعق فيحذرون، ولأذهب أبصارهم فلا يرون الضوء ليمشوا. وقيل، عن ابن عباس: لذهب بسمعهم وأبصارهم لما تركوا من الحق بعد معرفته. وقيل: لعجل لهم العقوبة في الدنيا، فذهب بسمعهم وأبصارهم، فلم ينتفعوا بها في الدنيا، لأنهم لم يستعملوها في الحق فينتفعوا بها في أخراهم. وقيل: لزاد في قصيف الرعد فأصمهم وفي ضوء البرق فأعماهم. وقيل: لأوقع بهم ما يتخوفونه من الزجر والوعيد. وقيل: لفضحهم عند المؤمنين وسلطهم عليهم. وقال الزمخشري: لذهب سمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق.
وظاهر الكلام أن هذا كله مما يتعلق بذوي صيب، فصرف ظاهره إلى أنه مما يتعلق بالمنافقين غير ظاهر، وإنما هذا مبالغة في تحير هؤلاء السفر وشدة ما أصابهم من الصيب الذي اشتمل على ظلمات ورعد وبرق، بحيث تكاد الصواعق تصمهم والبرق يعميهم. ثم ذكر أنه لو سبقت المشيئة بذهاب سمعهم وأبصارهم لذهبت، وكما اخترنا في قوله {ذهب الله بنورهم} إلى آخره أنه مبالغة في حال المستوقد، كذلك اخترنا هنا أن هذا مبالغة في حالة السفر، وشدة المبالغة في حال المشبه بهما يقتضي شدة المبالغة في حال المشبه، فهو وإن لم تكن هذه الجزئيات التي للمشبه به ثابتة للمشبه بنظائرها ثابتة له، ولا سيما إذا كان التمثيل من قبيل التمثيلات المفردة. وأما على ما اخترناه من أنه من التمثيلات المركبة، فتكون المبالغة في التشبيه بما آل إليه حال المشبه به، وقد تقدم الكلام على ذلك قبل، وخص السمع والأبصار في قوله: {لذهب بسمعهم وأبصارهم} لتقدم ذكرهما في قوله: {في آذانهم}، وفي قوله: {يخطف أبصارهم}. وقال بعضهم: تقدم ذكر الرعد والصواعق، ومدركهما السمع، والظلمات والبرق، ومدركهما: البصر، ثم قال: لو شاء أذهب ذلك من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم، أعقب تعالى ما علقه على المشيئة بالإخبار عنه تعالى بالمقدرة لأن بهما تمام الأفعال، أعني القدرة والإرادة وأتى بصيغة المبالغة إذ لا أحق بها منه تعالى. وعلى كل شيء: متعلق بقوله: قدير، وفي لفظ قدير ما يشعر بتخصيص العموم، إذ القدرة لا تتعلق بالمستحيلات.
وقد تقدم لنا بعض كلام على تناسق الآي التي تقدم الكلام عليها، ونحن نلخص ذلك هنا، فنقول: افتتح تعالى هذه السورة بوصف كلامه المبين، ثم بين أنه هدى لمؤمني هذه الأمة ومدحهم، ثم مدح من ساجلهم في الإيمان وتلاهم من مؤمني أهل الكتاب، وذكر ما هم عليه من الهدى في الحال ومن الظفر في المآل، ثم تلاهم بذكر أضدادهم المختوم على قلوبهم وأسماعهم المغطي أبصارهم الميؤوس من إيمانهم، وذكر ما أعد لهم من العذاب العظيم، ثم أتبع هؤلاء بأحوال المنافقين المخادعين المستهزئين وأخر ذكرهم وإن كانوا أسوأ أحوالاً من المشركين، لأنهم اتصفوا في الظاهر بصفات المؤمنين وفي الباطن بصفات الكافرين، فقدم الله ذكر المؤمنين، وثنّى بذكر أهل الشقاء الكافرين، وثلّث بذكر المنافقين الملحدين، وأمعن في ذكر مخازيهم فأنزل فيهم ثلاث عشرة آية، كل ذلك تقبيح لأحوالهم وتنبيه على مخازي أعمالهم، ثم لم يكتف بذكر ذلك حتى أبرز أحوالهم في صورة الأنفال، فكان ذلك أدعى للتنفير عما اجترحوه من قبيح الأفعال.
فانظر إلى حسن هذا السياق الذي نوقل في ذروة الإحسان وتمكن في براعة أقسام البديع وبلاغة معاني البيان.


يا: حرف نداء، وزعم بعضهم أنها اسم فعل معناها: أنادي، وعلى كثرة وقوع النداء في القرآن لم يقع نداء إلا بها، وهي أعم حروف النداء، إذ ينادي بها القريب والبعيد والمستغاث والمندوب. وأمالها بعضهم، وقد تتجرد للتنبيه فيليها المبتدأ والأمر والتمني والتعليل، والأصح أن لا ينوي بعدها منادي. أي: استفهام وشرط وصفة ووصلة لنداء ما فيه الألف واللام، وموصولة، خلافاً لأحمد بن يحيى، إذ أنكر مجيئها موصولة، ولا تكون موصوفة خلافاً للأخفش. ها: حرف تنبيه، أكثر استعمالها مع ضمير رفع منفصل مبتدأ مخبر عنه باسم إشارة غالباً، أو مع اسم إشارة لا لبعد، ويفصل بها بين أي في النداء وبين المرفوع بعده، وضمها فيه لغة بني مالك من بني أسد، يقولون: يا أيه الرجل، ويا أيتها المرأة. الخلق: الاختراع بلا مثال، وأصله التقدير، خلقت الأديم قدرته، قال زهير:
ولأنت تفرى ما خلقت *** وبعض القوم يخلق ثم لا يفرى
قال قطرب: الخلق هو الإيجاد على تقدير وترتيب، والخلق والخليقة تنطلق على المخلوق، ومعنى الخلق والإيجاد، والإحداث، والإبداع، والإختراع، والإنشاء، متقارب. قيل: ظرف زمان، ولا يعمل فيها عامل فيخرجها عن الظرفية إلا من، وأصلها وصف ناب عن موصوفه لزوماً، فإذا قلت: قمت قبل زيد، فالتقدير قمت زماناً قبل زمان قيام زيد، فحذف هذا كله وناب عنه قبل زيد. لعل: حرف ترجّ في المحبوبات، وتوقع في المحدورات، ولا تستعمل إلا في الممكن، لا يقال: لعل الشباب يعود، ولا تكون بمعنى كي، خلافاً لقطرب وابن كيسان، ولا استفهاماً خلافاً للكوفيين، وفيها لغات لم يأت منها في القرآن إلا الفصحى، ولم يحفظ بعدها نصب الاسمين، وحكى الأخفش أن من العرب من يجزم بلعل، وزعم أبو زيد أن ذلك لغة بني عقيل. الفراش: الوطاء الذي يقعد عليه وينام ويتقلب عليه. البناء: مصدر، وقد يراد به المنقول من بيت أو قبة أو خباء أو طراف وأبنية العرب أخبيتهم. الماء: معروف، وقال بعضهم: هو جوهر سيال به قوام الحيوان ووزنه فعل وألفه منقلبة من واو وهمزته بدل من هاء يدل عليه: مويه، ومياه، وأمواه. الثمرة: ما تخرجه الشجرة من مطعوم أو مشموم. الند: المقاوم المضاهى مثلاً كان أو ضداً أو خلافاً. وقال أبو عبيدة والمفضل: الند: الضد، قال ابن عطية، وهذا التخصيص تمثيل لا حصر. وقال غيره: الند: الضد المبغض المناوي من الندود، وقال المهدوي: الند: الكفؤ والمثل، هذا مذهب أهل اللغة سوى أبي عبيدة. فإنه قال: الضد. قال الزمخشري: الند: المثل، ولا يقال إلا للمثل المخالف للبارئ، قال جرير:
أتيما تجعلون إلي نداً *** وما تيم لذي حسب نديد
وناددت الرجل: خالفته ونافرته، من ند ندوداً إذا نفر. ومعنى قولهم: ليس لله ند ولا ضد، نفى ما يسد مسده ونفي ما ينافيه.
يا أيها الناس: خطاب لجميع من يعقل، قاله ابن عباس، أو اليهود خاصة، قاله الحسن ومجاهد، أو لهم وللمنافقين، قاله مقاتل، أو لكفار مشركي العرب وغيرهم، قاله السّدي، والظاهر قول ابن عباس لأن دعوى الخصوص تحتاج إلى دليل. ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وصفاتهم وأحوالهم وما يؤول إليه حال كل منهم، انتقل من الإخبار عنهم إلى خطاب النداء، وهو التفات شبيه بقوله: {إياك نعبد}، بعد قوله: {الحمد لله رب العالمين}، وهو من أنواع البلاغة كما تقدم، إذ فيه هز للسامع وتحريك له، إذ هو خروج من صنف إلى صنف، وليس هذا انتقالاً من الخطاب الخاص إلى الخطاب العام، كما زعم بعض المفسرين، إذ لم يتقدم خطاب خاص إلا إن كان ذلك تجوزاً في الخطاب بأن يعني به الكلام، فكأنه قال: انتقل من الكلام الخاص إلى الكلام العام، قال هذا المفسر، وهذا من أساليب الفصاحة، فإنهم يخصون ثم يعمون. ولهذا لما نزل: {وأنذر عشيرتك الأقربين} دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخص وعم، فقال: «يا عباس عم محمد لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئاً» وقال الشاعر:
يا بني اندبوا ويا أهل بيتي *** وقبيلي عليّ عاماً فعاما
انتهى كلامه.
وروي عن ابن عباس ومجاهد وعلقمة أنهم قالوا: كل شيء نزل فيه: {يا أيها الناس} فهو مكي، و{يا أيها الذين آمنوا} فهو مدني. أما في {يا أيها الذين آمنوا} فصحيح، وأما في {يا أيها الناس} فيحمل على الغالب، لأن هذه السورة مدنية، وقد جاء فيها يا أيها الناس. وأي في أيها منادى مفرد مبني على الضم، وليست الضمة فيه حركة إعراب خلافاً للكسائي والرياشي، وهي وصلة لنداء ما فيه الألف واللام ما لم يمكن أن ينادي توصل بنداء أي إلى ندائه، وهي في موضع نصب، وهاء التنبيه كأنها عوض مما منعت من الإضافة وارتفع الناس على الصفة على اللفظ، لأن بناء أي شبيه بالإعراب، فلذلك جاز مراعاة اللفظ، ولا يجوز نصبه على الموضع، خلافاً لأبي عثمان. وزعم أبو الحسن في أحد قوليه أن أيا في النداء موصولة وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ محذوف، فإذا قال: يا أيها الرجل، فتقديره: يا من هو الرجل. والكلام على هذا القول وقول أبي عثمان مستقصى في النحو.
اعبدوا ربكم: ولما واجه تعالى الناس بالنداء أمرهم بالعبادة، وقد تقدم تفسيرها في قوله تعالى: {إياك نعبد}، والأمر بالعبادة شمل المؤمنين والكافرين.
لا يقال: المؤمنون عابدون، فيكف يصح الأمر بما هم ملتبسون به؟ لأنه في حقهم أمر بالازدياد من العبادة، فصح مواجهة الكل بالعبادة، وانظر لحسن مجيء الرب هنا، فإنه السيد والمصلح، وجدير بمن كان مالكاً أو مصلحاً أحوال العبد أن يخص بالعبادة ولا يشرك مع غيره فيها. والخطاب، إن كان عاماً، كان قوله: {الذي خلقكم} صفة مدح، وإن كان لمشركي العرب كانت للتوضيح، إذ لفظ الرب بالنسبة إليهم مشترك بين الله تعالى وبين آلهتهم، ونبه بوصف الخلق على استحقاقه العبادة دون غيره، {أفمن يخلق كم لا يخلق} أو على امتنانه عليهم بالخلق على الصورة الكاملة، والتمييز عن غيرهم بالعقل، والإحسان إليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، أو على إقامة الحجة عليهم بهذا الوصف الذي لا يمكن أن يشرك معه فيه غيره، ووصف الربوبية والخلق موجب للعبادة، إذ هو جامع لمحبة الاصطناع والاختراع، والمحب يكون على أقصى درجات الطاعة لمن يحب. وقالوا: المحبة ثلاث، فزادوا محبة الطباع كمحبة الوالد لولده، وأدغم أبو عمر وخلقكم، وتقدّم تفسير الخلق في اللغة، وإذا كان بمعنى الاختراع والإنشاء فلا يتصف به إلا الله تعالى.
وقد أجمع المسلمون على أن لا خالق إلا الله تعالى، وإذا كان بمعنى التقدير، فمقتضى اللغة أنه قد يوصف به غير الله تعالى، كبيت زهير. وقال تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين} {وإذ تخلق من الطين} وقال أبو عبد الله البصري، أستاذ القاضي عبد الجبار: إطلاق اسم الخالق على الله تعالى محال، لأن التقدير والتسوية عبارة عن الفكر والظن والحسبان، وذلك في حق الله تعالى محال. وكأنّ أبا عبد الله لم يعلم أن الخلق في اللغة يطلق على الإنشاء، وكلام البصري مصادم لقوله تعالى: {هو الله الخالق البارئ} إذ زعم أنه لا يطلق اسم الخالق على الله، وفي اللغة والقرآن والإجماع ما يرد عليه. وعطف قوله: {والذين من قبلكم} على الضمير المنصوب في خلقكم، والمعطوف متقدّم في الزمان على المعطوف عليه وبدأ به، وإن كان متأخراً في الزمان، لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره، إذ أقرب الأشياء إليه نفسه، ولأنهم المواجهون بالأمر بالعبادة، فتنبيههم أولاً على أحوال أنفسهم آكد وأهم، وبدأ أولاً بصفة الخلق، إذ كانت العرب مقرة بأن الله خالقها، وهم المخاطبون، والناس تبع لهم، إذ نزل القرآن بلسانهم. وقرأ ابن السميفع: وخلق من قبلكم، جعله من عطف الجمل. وقرأ زيد بن علي: {والذين من قبلكم} بفتح ميم من، قال الزمخشري: وهي قراءة مشكلة ووجهها على أشكالها أن يقال: أقحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيداً، كما أقحم جرير في قوله:
يا تيم تيم عدي لا أبا لكم *** تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه
وكإقحامهم لام الإضافة بين المضاف والمضاف إليه في لا أبا لك، انتهى كلامه.
وهذا التخريج الذي خرج الزمخشري قراءة زيد عليه هو مذهب لبعض النحويين زعم أنك إذا أتيت بعد الموصول بموصول آخر في معناه مؤكد له، لم يحتج الموصول الثاني إلى صلة، نحو قوله:
من النفر اللائي الذين أذاهم *** يهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا
فإذا وجوابها صلة اللائي، ولا صلة للذين، لأنه إنما أتى به للتأكيد. قال أصحابنا: وهذا الذي ذهب إليه باطل، لأن القياس إذا أكد الموصول أن تكرره مع صلته لأنها من كماله، وإذا كانوا أكدوا حرف الجر أعادوه مع ما يدخل عليه لافتقاره إليه، ولا يعيدونه وحده إلا في ضرورة، فالأحرى أن يفعل مثل ذلك بالموصول الذي الصلة بمنزلة جزء منه. وخرج أصحابنا البيت على أن الصلة للموصول الثاني وهو خبر مبتدأ محذوف، ذلك المبتدأ والموصول في موضع الصلة للأول تقديره من النفر اللائي هم الذين أذا هم، وجاز حذف المبتدأ وإضماره لطول خبره، فعلى هذا يتخرج قراءة زيد أن يكون قبلكم صلة من، ومن خبر مبتدأ محذوف، وذلك المبتدأ وخبره صلة للموصول الأول وهو الذين، التقدير والذين هم من قبلكم. وعلى قراءة الجمهور تكون صلة الذين قوله: {من قبلكم}، وفي ذلك إشكال، لأن الذين أعيان، ومن قبلكم جار ومجرور ناقص ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدة، فكذلك الوصل به إلا على تأويل، وتأويله أنه يؤول إلى أن ظرف الزمان إذا وصف صح وقوعه خبراً نحو: نحن في يوم طيب، كذلك يقدر هذا والذين كانوا من زمان قبل زمانكم. وهذا نظير قوله تعالى: {كالذين من قبلكم} وإنما ذكر {والذين من قبلكم}، وإن كان خلقهم لا يقتضي العبادة علينا لأنهم كالأصول لهم، فخلق أصولهم يجري مجرى الأنعام على فروعهم، فذكرهم عظيم إنعامه تعالى عليهم وعلى أصولهم بالإيجاد.
وليست لعل هنا بمعنى كي لأنه قول مرغوب عنه ولكنها للترجي والأطماع، وهو بالنسبة إلى المخاطبين، لأن الترجي لا يقع من الله تعالى إذ {هو عالم الغيب والشهادة} وهي متعلقة بقوله: {اعبدوا ربكم}، فكأنه قال: إذا عبدتم ربكم رجوتم التقوى، وهي التي تحصل بها الوقاية من النار والفوز بالجنة. قال ابن عطية: ويتجه تعلقها بخلقكم لأن كل مولود يوجد على الفطرة فهو بحيث يرجى أن يكون متقياً. ولم يذكر الزمخشري غير تعلقها بخلقكم، قال: لعل واقعة في الآية موقع المجاز لا الحقيقة، لأن الله تعالى خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف، وركب فيهم العقول والشهوات، وأزاح العلة في أقدارهم وتمكينهم، وهداهم النجدين، ووضع في أيديهم زمام الاختيار، وأراد منهم الخير والتقوى، فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا لترجح أمرهم، وهم مختارون بين الطاعة، والعصيان، كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل وأن لا يفعل، انتهى كلامه.
وهو مبني على مذهبه الاعتزالي من أن العبد مختار، وأنه لا يريد الله منه إلا فعل الخير، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الدين. والذي يظهر ترجيحه أن يكون: {لعلكم تتقون} متعلقاً بقوله: {اعبدوا ربكم}. فالذي نُودوا لأجله هو الأمر بالعبادة، فناسب أن يتعلق بها ذلك وأتى بالموصول وصلته على سبيل التوضيح أو المدح للذي تعلقت به العبادة، فلم يجأ بالموصول ليحدث عنه بل جاء في ضمن المقصود بالعبادة. وأما صلته فلم يجأ بها لإسناد مقصود لذاته، إنما جيء بها لتتميم ما قبلها. وإذا كان كذلك فكونها لم يجأ بها لإسناد يقتضي أن لا يهتم بها فيتعلق بها ترج أو غيره، بخلاف قوله: اعبدوا، فإنها الجملة المفتتح بها أولاً والمطلوبة من المخاطبين. وإذا تعلق بقوله: اعبدوا، كان ذلك موافقاً، إذ قوله: اعبدوا خطاب، ولعلكم تتقون خطاب.
ولما اختار الزمخشري تعلقه بالخلق قال: فإن قلت كما خلق المخاطبين لعلهم يتقون، فكذلك خلق الذين من قبهلم، لذلك قصره عليهم دون من قبلهم، قلت: لم يقصره عليهم ولكن غلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادتهم جميعاً، انتهى كلامه. وقد تقدم ترجيح تعلقه بقوله: اعبدوا، فيسقط هذا السؤال. وقال المهدوي: لعل متصلة باعبدوا لا بخلقكم، لأن من درأه الله عز وجل لجهنم لم يخلقه ليتقي. والمعنى عند سيبويه: افعلوا ذلك على الرجاء والطمع أن تتقوا، انتهى كلامه. ولما جعل الزمخشري لعلكم تتقون متعلقاً بالخلق قال: فإن قلت: فهلا قيل: تعبدون لأجل اعبدوا أو اتقوا المكان تتقون ليتجاوب طرفا النظم؟ قلت: ليست التقوى غير العبادة حتى يؤدي ذلك إلى تنافر النظم، وإنما التقوى قصارى أمر العابد ومنتهى جهده، فإذا قال: {اعبدوا ربكم الذي خلقكم} للاستيلاء على أقصى غايات العبادة كان أبعث على العبادة وأشد إلزاماً لها وأثبت لها في النفوس، انتهى كلامه. وهو مبني على مذهبه في أن الخلق كان لأجل التقوى، وقد تقدم ذلك. وأما قوله: ليتجاوب طرفا النظم فليس بشيء لأنه لا يمكن هنا تجاوب طرفي النظم لأنه يصير المعنى: اعبدوا ربكم لعلكم تتقون، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون، وهذا بعيد في المعنى، إذ هو مثل: اضرب زيداً لعلك تضربه، واقصد خالداً لعلك تقصده. ولا يخفى ما في هذا من غثاثة اللفظ وفساد المعنى، والقرآن متنزه عن ذلك. والذي جاء به القرآن هو في غاية الفصاحة، إذ المعنى أنهم أمروا بالعبادة على رجائهم عند حصولها حصول التقوى لهم، لأن التقوى مصدر اتقى، واتقى معناه اتخاذ الوقاية من عذاب الله، وهذا مرجو حصوله عند حصول العبادة. فعلى هذا، العبادة ليست نفس التقوى، لأن الاتقاء هو الاحتراز عن المضار، والعبادة فعل المأمور به، وفعل المأمور به ليس نفس الاحتراز بل يوجب الاحتراز، فكأنه قال: اعبدوه فتحترزوا عن عقابه، فإن أطلق على نفس الفعل اتقاء فهو مجاز، ومفعول يتقون محذوف.
قال ابن عباس: الشرك، وقال الضحاك: النار، أو معناه تطيعون، قاله مجاهد: ومن قال المعنى الذي خلقكم راجين للتقوى. قال بعض المفسرين: فيه بعد من حيث إنه لو خلقهم راجين للتقوى كانوا مطيعين مجبولين عليها، والواقع خلاف ذلك، انتهى كلامه. ويعني أنهم لو خلقوا وهم راجون للتقوى لكان ذلك مركوزاً في جبلتهم، فكان لا يقع منهم غير التقوى وهم ليسوا كذلك، بل المعاصي هي الواقعة كثيراً، وهذا ليس كما ذكر، وقد يخلق الإنسان راجياً لشيء فلا يقع ما يرجوه، لأن الإنسان في الحقيقة ليس له الخيار فيما يفعله أو يتركه، بل نجد الإنسان يعتقد رجحان الترك في شيء ثم هو يفعله، ولقد صدق الشاعر في قوله:
علمي بقبح المعاصي حين أركبها *** يقضي بأني محمول على القدر
فلا يلزم من رجاء الإنسان لشيء وقوع ما يرتجي، وإنما امتنع ذلك التقدير، أعني تقدير الحال، من حيث إن لعل للإ نشاء، فهي وما دخلت عليه ليست جملة خبرية فيصح وقوعها حالاً.
قال الطبري: هذه الآية، يريد: {يا أيها الناس اعبدوا} من أدلّ دليل على فساد قول من زعم أن تكليف ما لا يطاق غير جائز، وذلك أن الله عز وجل أمر بعبادته من آمن به ومن كفر بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون. والموصول الثاني في قوله: {الذي جعل} يجوز رفعه ونصبه، فرفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، فهو رفع على القطع، إذ هو صفة مدح، قالوا: أو على أنه مبتدأ خبره قوله: {فلا تجعلوا لله أنداداً}، وهو ضعيف لوجهين: أحدهما: أن صلة الذي وما عطف عليها قد مضيا، فلا ينابسب دخول الفاء في الخبر. الثاني: أن ذلك لا يتمشى إلا على مذهب أبي الحسن، لأن من الروابط عنده تكرار المبتدأ بمعناه، فالذي مبتدأ، و{فلا تجعلوا لله أنداداً} جملة خبرية، والرابط لفظ الله من لله كأنه قيل: {فلا تجعلوا لله أنداداً}، وهذا من تكرار المبتدأ بمعناه. ولا نعرف إجازة ذلك إلا عن أبي الحسن. أجاز أن تقول: زيد قام أبو عمرو، وإذا كان أبو عمرو كنية لزيد، ونص سيبويه على منع ذلك. وأما نصبه فيجوز أن يكون على القطع، إذ هو وصف مدح، كما ذكرنا، ويجوز أن يكون وصفاً لما كان له وصفاً الذي خلقكم، وهو ربكم، قالوا: ويجوز نصبه على أن يكون نعتاً لقوله: {الذي خلقكم}، فيكون نعتاً للنعت ونعت النعت مما يحيل تكرار النعوت. والذي نختاره أن النعت لا ينعت، بل النعوت كلها راجعة إلى منعوت واحد، إلا إن كان ذلك النعت لا يمكن تبعيته للمنعوت، فيكون إذ ذاك نعتاً للنعت الأول، نحو قولك: يا أيها الفارس ذو الجمة.
وأجاز أبو محمد مكي نصبه بإضمار أعني، وما قبله ليس بملتبس، فيحتاج إلى مفسر له بإضمار أعني، وأجاز أيضاً نصبه بتتقون، وهو إعراب غث ينزه القرآن عن مثله. وإنما أتى بقوله الذي دون واو لتكون هذه الصفة وما قبلها راجعين إلى موصوف واحد، إذ لو كانت بالواو لأوهم ذلك موصوفاً آخر، لأن العطف أصله المغايرة.
وجعل: بمعنى صير، لذلك نصبت الأرض. وفراشاً، ولكم متعلق بجعل، وأجاز بعضهم أن ينتصب فراشاً وبناء على الحال، على أن يكون جعل بمعنى خلق، فيتعدى إلى واحد، وغاير اللفظ كما غاير في قوله: {خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور} لأنه قصد إلى ذكر جملتين، فغاير بين اللفظين لأن التكرار ليس في الفصاحة، كاختلاف اللفظ والمدلول واحد. وأدغم أبو عمرو لام جعل في لام لكم، والألف واللام في الأرض يجوز أن تكون للجنس الخاص، فيكون المراد أرضاً مخصوصة، وهي كل ما تمهد واستوى من الأرض وصلح أن يكون فراشاً. ويجوز أن تكون لاستغراق الجنس، ويكون المراد بالفراش مكان الاستقرار واللبث لكل حيوان. فالوهد مستقر بني آدم وغيرهم من الحيوانات، والجبال والحزون مستقر لبعض الآدميين بيوتاً أو حصوناً ومنازل، أو لبعض الحيوانات وحشاً وطيراً يفترشون منها أوكاراً، ويكون الامتنان على هذا مشتملاً على كل من جعل الأرض له قراراً. وغلب خطاب من يعقل على من لا يعقل، أو يكون خطاب الامتنان وقع على من يعقل، لأن ما عداهم من الحيوانات معد لمنافعهم ومصالحهم، فخلقها من جملة المنة على من يعقل. وقرأ يزيد الشامي: بساطاً، وطلحة: مهاداً. والفراش، والمهاد، والبساط، والقرار، والوطاء نظائر.
وقد استدل بعض المنجمين بقوله: {جعل لكم الأرض فراشاً} على أن الأرض مبسوطة لا كرية، وبأنها لو كانت كرية ما استقر ماء البحار فيها. أما استدلاله بالآية فلا حجة له في ذلك، لأن الآية لا تدل على أن الأرض مسطحة ولا كرية، إنما دلت على أن الناس يفترشونها كما يتقلبون بالمفارش، سواء كانت على شكل السطح أو على شكل الكرة، وأمكن الافتراش فيها لتباعد أقطارها واتساع جرمها. قال الزمخشري: وإذا كان يعني الافتراش سهلاً في الجبل، وهو وتد من أوتاد الأرض، فهو أسهل في الأرض ذات الطول والعرض. وأما استدلاله باستقرار ماء البحار فيها فليس بصحيح، قالوا: لأنه يجوز أن تكون كرية ويكون في جزء منها منسطح يصلح للاستقرار، وماء البحر متماسك بأمر الله تعالى لا بمقتضى الهيئة، انتهى قولهم. ويجوز أن يكون بعض الشكل الكري مقراً للماء إذا كان الشكل ثابتاً غير دائر، أما إذا كان دائراً فيستحيل عادة قراره في مكان واحد من ذلك الشكل الكريّ. وهذه مسألة يتكلم عليها في علم الهيئة.
وقوله تعالى: {والسماء بناء}: هو تشبيه بما يفهم كقوله تعالى: {والسماء بنيناها بأيد} شبهت بالقبة المبنية على الأرض، ويقال لسقف البيت بناء، والسماء للأرض كالسقف، روي هذا عن ابن عباس وجماعة. وقيل: سماها بناء، لأن سماء البيت يجوز أن يكون بناء غير بناء، كالخيام والمضارب والقباب، لكن البناء أبلغ في الإحكام وأتقن في الصنعة وأمنع لوصول الأذى إلى من تحته، فوصف السماء بالأبلغ والأتقن والأمنع، ونبه بذلك على إظهار قدرته وعظيم حكمته، إذ المعلوم أن كل بناء مرتفع لا يتهيأ إلا بأساس مستقر على الأرض أو بعمد وأطناب مركوزة فيها، والسماء في غاية ما يكون من العظم، وهي سبع طباق بعضها فوق بعض، وعليها من أثقال الأفلاك وأجناس الأملاك وأجرام الكواكب التي لا يعبر عن عظمها ولا يحصي عددها، وهي مع ذلك بغير أساس يمسكها ولا عمد تقلها ولا أطناب تشدها، وهي لو كانت بعمد وأساس كانت من أعظم المخلوقات وأحكم المبدعات، فكيف وهي عارية عن ذلك ممسكة بالقدرة الإلهية: {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا} وقيل: سميت بناء لتماسكها كما يتماسك البناء بعضه ببعض.
وأنزل من السماء: يجوز أن يراد به السحاب، ويجوز أن يراد به السماء المعروفة. فعلى الأول الجامع بينهما هو القدر المشترك من السمو، ولا يجوز الإضمار لأنه غير الأول، وعلى الثاني فحسن الإظهار دون الإضمار هنا كون السماء الأولى في ضمن جملة، والثانية جملة صالحة بنفسها أن تكون صلة تامة لولا عطفها، ومن متعلقة بأنزل وهي لابتداء الغاية، ويحتمل أن تتعلق بمحذوف على أن تكون في موضع الحال من ماء، لأنه لو تأخر لكان نعتاً فلما تقدم انتصب على الحال، ومعناها إذ ذاك التبعيض، ويكون في الكلام مضاف محذوف أي من مياه السماء ونكر. ماء لأن المنزل لم يكن عاماً فتدخل عليه الألف واللام وإنما هو ما صدق عليه الاسم. فأخرج به: والهاء في به عائدة إلى الماء، والباء معناها السببية. فالماء سبب للخروج، كما أن ماء الفحل سبب في خلق الولد، وهذه السببية مجاز، إذ الباري تعالى قادر على أن ينشئ الأجناس، وقد أنشأ من غير مادة ولا سبب، ولكنه تعالى لما أوجد خلقه في بعض الأشياء عند أمر ما، أجرى ذلك الأمر مجرى السبب لا أنه سبب حقيقيّ. ولله تعالى في إنشاء الأمور منتقلة من حال إلى حال حكم يستنصر بها، لم يكن في إنشائها دفعة واحدة من غير انتقال أطوار، لأن في كل طور مشاهدة أمر من عجيب التنقل وغريب التدريج تزيد المتأمل تعظيماً للباري. من الثمرات: من للتبعيض، والألف واللام في الثمرات لتعريف الجنس وجمع لاختلاف أنواعه، ولا ضرورة تدعو إلى ارتكاب أن الثمرات من باب الجموع التي يتفاوت بعضها موضع بعض لالتقائهما في الجمعية، نحو: {كم تركوا من جنات} و{ثلاثة قروء} فقامت الثمرات مقام الثمر أو الثمار على ما ذهب إليه الزمخشري، لأن هذا من الجمع المحلى بالألف واللام، فهو وإن كان جمع قلة، فإن الألف واللام التي للعموم تنقله من الاختصاص لجمع القلة للعموم، فلا فرق بين الثمرات والثمار، إذ الألف واللام للاستغراق فيهما، ولذلك رد المحققون على من نقد على حسان قوله:
لنا الجفنات الغر يل معن في الضحى *** وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
بأن هذا جمع قلة، فكان ينبغي على زعمه أن يقول: الجفان وسيوفنا، وهو نقد غير صحيح لما ذكرناه من أن الاستغراق ينقله، وأبعد من جعل من زائدة، وجعل الألف واللام للاستغراق لوجهين: أحدهما: زيادة من في الواجب، وقيل معرفة، وهذا لا يقول به أحد من البصريين والكوفيين إلا الأخفش. والثاني: أنه يلزم منه أن يكون جميع الثمرات التي أخرجها رزقاً لنا، وكم من شجرة أثمرت شيئاً لا يمكن أن يكون رزقاً لنا، وإن كانت للتبعيض كان بعض الثمار رزقاً لنا وبعضها لا يكون رزقاً لنا، وهو الواقع. وناسب في الآية تنكير الماء وكون من دالة على التبعيض وتنكير الرزق، إذ المعنى: وأنزل من السماء بعض الماء فأخرج به بعض الثمرات بعض رزق لكم، إذ ليس جميع رزقهم هو بعض الثمرات، إنما ذلك بعض رزقهم، ومن الثمرات يحتمل أن يكون في موضع المفعول به بأخرج، ويكون على هذا رزقاً منصوباً على الحال إن أُريد به المرزوق كالطحن والرعي، أو مفعولاً من أجله إن أريد به المصدر، وشروط المفعول له فيه موجودة، ويحتمل أن يكون متعلقاً بأخرج، ويكون رزقاً مفعولاً بأخرج. وقرأ ابن السميفع: من الثمرة على التوحيد، يريد به الجمع كقولهم: فلان أدركت ثمرة بستانه، يريدون ثماره. وقولهم: للقصيدة كلمة، وللقرية مدرة، لا يريدون بذلك الإفراد. ولكم: إن أريد بالرزق المصدر كانت الكاف مفعولاً به واللام منوية لتعدّي المصدر إليه نحو: ضربت ابني تأديباً له، أي تأديبه، وإن أريد به المرزوق كان في موضع الصفة فتتعلق اللام بمحذوف، أي كائناً لكم، ويحتمل أن تكون لكم متعلقاً بأخرج، أي فأخرج لكم به من الثمرات رزقاً. وانتهى عند قوله: رزقاً لكم ذكر خمسة أنواع من الدلائل: اثنين من الأنفس خلقهم وخلق من قبلهم، وثلاثة من غير الأنفس كون الأرض فراشاً وكون السماء بناءً، والحاصل من مجموعهما تقدم خلق الإنسان لأنه أقرب إلى معرفته، وثنّى بخلق الآباء، وثلث بالأرض لأنها أقرب إليه من السماء، وقدّم السماء على نزول المطر وإخراج الثمرات، لأن هذا كالأمر المتولد بين السماء والأرض والأثر متأخر عن المؤثر. وقيل: قدم المكلفين لأن خلقهم أحياء قادرين أصل لجميع النعم. وأما خلق السماء والأرض والماء والثمر، فإنما ينتفع به بشرط حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة والعقل.
وقد اختلف أيهما أفضل، ومن قال السماء أفضل قال: لأنها متعبد الملائكة وما فيها من بقعة عصى الله فيه، ولأن آدم لما عصاه قال: لا تسكن جواري، ولتقديم السماء على الأرض في أكثر الآيات، ولأن فيها العرش والكرسي واللوح المحفوظ والقلم، وأنها قبلة الدعاء. ومن قال الأرض أفضل قال: لأن الله وصف منها بقاعاً بالبركة، ولأن الأنبياء مخلوقون منها، ولأنها مسجد وطهور.
{فلا تجعلوا لله أنداداً} ظاهره أنه نهى عن اتخاذ الأنداد، وسموا أنداداً على جهة المجاز من حيث أشركوهم معه تعالى في التسمية بالإلهية، والعبادة صورة لا حقيقة لأنهم لم يكونوا يعبدونهم لذواتهم بل للتقرب إلى الله تعالى، وكانوا يسمون الله إله الآلهة ورب الأرباب، ومن شابه شيئاً في وصف مّا قيل: هو مثله وشبهه ونده في ذلك الوصف دون بقية أوصافه، والنهي عن اتخاذ الأنداد بصورة الجمع هو على حسب الواقع لأنهم لم يتخذوا له تعالى نداً واحداً، وإنما جعلوا له أنداداً كثيرة، فجاء النهي على ما كانوا اتخذوه، ولذلك قال زيد بن عمرو بن نفيل:
أرباً واحداً أم ألف رب *** أدين إذا تقسمت الأمور
وقرأ زيد بن علي بن محمد بن السميفع: نداً على التوحيد، وهو مفرد في سياق النهي، فالمراد به العموم، إذ ليس المعنى: فلا تجعلوا لله نداً واحداً بل أنداداً، وهذا النهي متعلق في بالأمر قوله: {اعبدوا ربكم}، أي فوحدوه وأخلصوا له العبادة، لأن أصل العبادة هو التوحيد. قال الزمخشري: متعلق بلعل، على أن ينتصب تجعلوا انتصاب فأَطَّلِعَ في قوله: {لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأَطَّلِعَ إلى إله موسى} في رواية حفص عن عاصم، أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه، انتهى كلامه. فعلى هذا لا تكون لا ناهية بل نافية، وتجعلوا منصوب على جواب الترجي، وهو لا يجوز على مذهب البصريين، إنما ذهب إلى جواز ذلك الكوفيون، أجروا لعل مجرى هل. فكما أن الاستفهام ينصب الفعل في جوابه فكذلك الترجي. فهذا التخريج الذي أخرجه الزمخشري لا يجوز على مذهب البصريين، وفي كلامه تعليق لعلكم تتقون بخلقكم، ألا ترى إلى تقديره أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه؟ فلا تشبهوه بخلقه، وهو جار على ما مر من مذهبه الاعتزالي، ويجوز أن يكون متعلقاً بالذي إذا جعلته خبر مبتدأ محذوف، أي هو الذي جعل لكم هذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية، فلا تجعلوا له أنداداً. والظاهر في هذا القول هو ما قدمناه أولاً من تعلقه بقوله: {اعبدوا ربكم}.
{وأنتم تعلمون}: جملة حالية، وفيها من التحريك إلى ترك الأنداد وإفراد الله بالوحدانية ما لا يخفى، أي أنتم من ذوي العلم والتمييز بين الحقائق والإدراك للطائف الأشياء والاستخراج لغوامض الدلائل، في الرتبة التي لا تليق لمن تحلى بها أن يجعل لله نداً وهو خلقه.
إذ ذاك فعل من كان أجهل العالم وأبعدهم عن الفطنة وأكثرهم تجويزاً للمستحيلات. ومفعول تعلمون متروك لأن المقصود إثبات أنهم من أهل العلم والمعرفة. والتمييز تخصيص العلم بشيء، قال معناه ابن قتيبة، لأنه فسر تعلمون بمعنى تعقلون، وقيل: هو محذوف اختصاراً تقديره: وأنتم تعلمون أنه خلق السموات وأنزل الماء، وفعل ما شرحه في هذه الآيات. ومعنى هذا مروي عن ابن عباس وقتادة ومقاتل، أو أنتم تعلمون أنه ليس ذلك في كتابيكم التوراة والإنجيل. وروي ذلك أيضاً عن ابن عباس، أو أنه لا ند له، قاله مجاهد، أو أنتم تعلمون أنه لا يقدر على فعل ما ذكره أحد سواه، ذكره علي بن عبيد الله، أو وأنتم تعلمون أنها حجارة، قاله أبو محمد بن الخشاب، أو وأنتم تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت، أو وأنتم تعلمون أنها لا تفعل مثل أفعاله كقوله: {هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء} قالهما الزمخشري والمخاطب بقوله: فلا تجعلوا ظاهره أنه للناس المأمورين باعبدوا ربكم، وقد تقدمت أقاويل السلف في ذلك.
قال ابن فورك: ويحتمل أن يكون الخطاب للمؤمنين، المعنى: فلا ترتدوا أيها المؤمنون وتجعلوا لله أنداداً بعد علمكم أن العلم هو نفي الجهل بأن الله واحد. قال أبو محمد بن عطية، هذه الآية تعطي أن الله تعالى أغنى الإنسان بنعمه هذه عن كل مخلوق، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا، فقد أخذ بطرف من جعل نداً، انتهى. وقول أبي محمد يعطي أن الله أغنى الإنسان، خطأ في التركيب، لأن أعطى لا تنوب أنّ ومعمولاها مناب مفعوليها، بخلاف ظن، فإنها تنوب مناب مفعوليها، ولذلك ذكر في علم العربية.
قال بعض المفسرين: اختص تعالى بهذه المخلوقات وهي: الخلقة البشرية، والبنيتان الأرضية والسماوية، لأنها محل الاعتبار ومسرح الإبصار ومواطن المنافع الدنيوية والأخروية، وبها يقوم الدليل على وجود الصانع وقدرته وحكمته وحياته وإرادته، وغير ذلك من صفاته الذاتية والفعلية، وانفراده بخلقها وأحكامها، وقدم الخلقة البشرية، وإن كانت للعالم الأصغر، لما فيها من بدائع الصنعة ما لا يعبر عنه وصف لسان ولا يحيط بكنهه فكرجنان، وظهور حسن الصنعة في الأشياء اللطيفة الجرم أعظم منه في الأجرام العظام، ولأن اعتبار الإنسان بنفسه في تقلب أحواله أقرب إلى ذهنه. قال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} أو لأن العرب عادتها تقديم الأهم عندها والمعتنى به، قال: وهو تعالى بإصلاح حال البنية البشرية أكثر اهتماماً من غيرها من المخلوقات، لأنها أشرف مخلوقاته وأكرمها عليه. قال تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} الآية، ولأنه تعالى خلق هذه الأشياء منافع لبني آدم وأعدها نعماً يمتن بها عليهم، وذكر المنعم عليه يتقدم على ذكر النعمة.
ثم إنه تعالى لما عرفهم أنه خالقهم أخبرهم أنه جعل لهم مكاناً يستقرون عليه، إذ كانت حكمته اقتضت ذلك، فيستقرون فيه جلوساً ونوماً وتصرفاً في معايشهم، وجعل منه سهلاً للقرار والزرع، ووعراً للاعتصام، وجبالاً لسكون الأرض من الاضطراب. ثم لما منّ عليهم بالمستقر أخبرهم بجعل ما يقيهم ويظلهم، وجعله كالخيمة المضروبة عليهم، وأشهدهم فيها من غرائب الحكمة بأن أمسكها فوقهم بلا عمد ولا طنب لتهتدي عقولهم، أنها ليست مما يدخل تحت مقدور البشر، ثم نبههم على النعمة العظمى، وهي إنزال المطر الذي هو مادة الحياة وسبب اهتزاز الأرض بالنبات، وأجناس الثمرات. وقدم ذكر الأرض على السماء، وإن كانت أعظم في القدرة وأمكن في الحكمة، وأتم في النعمة وأكبر في المقدار، لأن السقف والبنيان، فيما يعهد، لا بد له من أساس وعمد مستقر على الأرض، فبدأ بذكرها، إذ على متنها يوضع الأساس وتستقر القواعد، إذ لا ينبغي ذكر السقف أولاً قبل ذكر الأرض التي تستقر عليها قواعده، أو لأن الأرض خلقها متقدم على خلق السماء، فإنه تعالى خلق الأرض ومهد رواسيها قبل خلق السماء. قال تعالى: {قال أئنكم لتكفرون} إلى آخر الآيات، أو لأن ذلك من باب الترقي بذكر الأدنى إلى ذكر الأعلى.
وقد تضمنت هاتان الآيتان من بدائع الصنعة، ودقائق الحكمة، وظهور البراهين، ما اقتضى تعالى أنه المنفرد بالإيجاد، المتكفل للعباد، دون غيره من الأنداد، التي لا تخلق ولا ترزق ولا لها نفع ولا ضر، ألا لله الخلق والأمر. قال بعض أصحاب الإشارات: لما امتن تعالى عليهم بأنه خلقهم والذين من قبهلم، ضرب لهم مثلاً يرشدهم إلى معرفة كيفية خلقهم، وأنهم وإن كانوا متوالدين بين ذكر وأنثى، مخلوقين {من نطفة إذا تمنى}، هو تعالى خالقهم على الحقيقة، ومصوّرهم في الأرحام كيف يشاء، ومخرجهم طفلاً، ومربيهم بما يصلحهم من غذاء وشراب ولباس، إلى غير ذلك من المنافع التي تدعو حاجتهم إليها فجعل الأرض التي هي فراش مثل الأم التي يفترشها الزوج، وهي أيضاً تسمى فراشاً، وشبه السماء التي علت على الأرض بالأب الذي يعلو على الأم ويغشاها، وضرب الماء النازل من السماء مثلاً للنطفة التي تنزل من صلب الأب، وضرب ما يخرج من الأرض من الثمرات بالولد الذي يخرج من بطن الأم، يؤنس تعالى بذلك عقولهم ويرشدها إلى معرفة كيفية التخليق، ويعرفها أنه الخالق لهذا الولد والمخرج له من بطن أمه، كما أنه الخالق للثمرات ومخرجها من بطون أشجارها، ومخرج أشجارها من بطن الأرض، فإذا أوضح ذلك لهم أفردوه بالإلهية، وخصوه بالعبادة، وحصلت لهم الهداية.


إن: حرف ثنائي الوضع يكون شرطاً، وهو أصل أدواته، وحرف نفي، وفي إعماله إعمال ما الحجازية خلاف، وزائداً مطرداً بعد ما النافية، وقبل مدة الإنكار، ولا تكون بمعنى إذ خلافا لزاعمه، ولا يعد من مواضعه المخففة من الثقيلة لأنها ثلاثية الوضع، ولذلك اختلف حكمها في التصغير. العبد: لغة المملوك الذكر من جنس الإنسان، وهو راجع لمعنى العبادة، وتقدم شرحها. الإتيان: المجيء، والأمر منه: ائت، كما جاء في لفظ القرآن، وشذ حذف فائه في الأمر قياساً واستعمالاً، قال الشاعر:
تِ لي آل عوف فاندهم لي جماعة *** وسلٍ آل عوف أي شيء يضيرها
وقال آخر:
فإن نحن لم ننهض لكم فنبركم *** فتوناً قفوا دوناً إذن بالجرائم
السورة: الدرجة الرفيعة. ألم تر أن الله أعطاك سورة؟ وسميت سورة القرآن بها لأن قارئها يشرف بقراءتها على من لم تكن عنده، كسور البناء. وقيل: لتمامها وكمالها، ومنه قيل للناقة التامة: سورة، أو لأنها قطعة من القرآن، من أسأرت، والسؤر فاصلها الهمز وخففت، قاله أبو عبيدة، والهمز فيها لغة. من مثله: المماثلة تقع بأدنى مشابهة، وقد ذكر سيبويه، رحمه الله، أن: مررت برجل مثلك، يحتمل وجوهاً ثلاثة، ولفظه مثل لازمة الإضافة لفظاً، ولذلك لحن بعض المولدين في قوله:
ومثلك من يملك الناس طراً *** على أنه ليس في الناس مثل
ولا يكون محلاً خلافاً للكوفيين. وله في باب الصفة، إذا جرى على مفرد ومثنى ومجموع، حكم ذكر في النحو. الدعاء: الهتف باسم المدعو. الشهداء: جمع شهيد، للمبالغة، كعليم وعلماء، ولا يبعد أن يكون جمع شاهد، كشاعر وشعراء، وليس فعلاء باب فاعل، دون: ظرف مكان ملازم للظرفية الحقيقية أو المجازية، ولا يتصرف فيه بغير من. قال سيبويه: وأما دونك فلا يرفع أبداً. قال الفراء: وقد ذكر دونك وظروفاً نحوها لا تستعمل أسماء مرفوعة على اختيار، وربما رفعوا. وظاهر قول الأخفش: جواز تصرفه، خرج قوله تعالى {ومنا دون ذلك} على أنه مبتدأ وبني لإضافته إلى المبنى، وقد جاء مرفوعاً في الشعر أيضاً، قال الشاعر:
ألم ترني أني حميت حقيبتي *** وباشرت حد الموت والموت دونها
وتجيء دون صفة بمعنى رديء، يقال: ثوب دون، أي رديء، حكاه سيبويه في أحد قوليه، فعلى هذا يعرب بوجوه الإعراب ويكون دون مشتركاً. الصدق: يقابله الكذب، وهو مطابقة الخبر للمخبر عنه. لن: حرف نفي ثنائي الوضع بسيط، لا مركب من لا إن خلافاً للخليل في أحد قوليه، ولا نونها بدل من ألف، فيكون أصلها لا خلافاً للفرّاء، ولا يقتضي النفي على التأييد خلافاً للزمخشري في أحد قوليه، ولن هي أقصر نفياً من لا إذ لن تنفي ما قرب، ولا يمتد معنى النفي فيها كما يمتد في لا خلافاً لزاعمه، ولا يكون دعاء خلافاً لزاعمه، وعملها النصب، وذكروا أن الجزم بها لغة، وأنشد ابن الطراوة:
لن يخب الآن من رجائك من *** حرك دون بابك الحلقة
ولها أحكام كثيرة ذكرت في النحو. الوقود: اسم لما يوقد به، وقد سمع مصدراً، وهو أحد المصادر التي جاءت على فعول، وهي قليلة، لم يحفظ منها، فيما ذكر، الأستاذ أبو الحسن بن عصفور سوى هذا، والوضوء والطهور والولوع والقبول، الحجارة: جمع الحجر، والتاء فيها التأكيد تأنيث الجمع كالفحولة. أُعدّت: هيئت.
{وإن كنتم في ريب} نزلت في جميع الكفار. وقال ابن عباس ومقاتل: نزلت في اليهود، وسبب ذلك أنهم قالوا: هذا الذي يأتينا به محمد لا يشبه الوحي وإنا لفي شك منه، والأظهر القول الأول. ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما احتج تعالى عليهم بما يثبت الوحدانية ويبطل الإشراك، وعرفهم أن من جعل لله شريكاً فهو بمعزل من العلم والتمييز، أخذ يحتج على من شك في النبوة بما يزيل شبهته، وهو كون القرآن معجزة، وبين لهم كيف يعلمون أنه من عند الله أم من عنده، بأن يأتوا هم ومن يستعينون به بسورة هذا، وهم الفصحاء البلغاء المجيدون حوك الكلام، من الثار والنظام والمتقلبون في أفانين البيان، والمشهود لهم في ذلك بالإحسان. ولما كانوا في ريب حقيقة، وكانت إن الشرطية إنما تدخل على الممكن أو المحقق المبهم زمان وقوعه، ادعى بعض المفسرين أن إن هنا معناها: إذا، لأن إذا تفيد مضي ما أضيفت إليه، ومذهب المحققين أن إن لا تكون بمعنى إذا. وزعم المبرد ومن وافقه أن لكان الماضية الناقصة معان حكماً ليست لغيرها من الأفعال الماضية، فلقوة كان زعم أن إن لا يقلب معناها إلى الاستقبال، بل يكون على معناه من المضي إن دخلت عليه إن، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أن كان كغيرها من الأفعال، وتأولوا ما ظاهره ما ذهب إليه المبرد، إما على إضمار يكن بعد إن نحو: {إن كان قميصه قدّ} أي إن يكن كان قميصه، أو على أن المراد به التبيين، أي أن يتبين كون قميصه قدّ.
فعلى قول أبي العباس يكون كونهم في ريب ماضياً، ويصير نظير ما لو جاء إن كنت أحسنت إليّ فقد أحسنت إليك، إذا حمل على ظاهره ولم يتأول. ولهذا قال بعض المفسرين في قوله: {وإن كنتم في ريب}: جرى كلام الله فيه على التحقيق، مثال قول الرجل لعبده: إن كنت عبدي فأطعني لأن الله تعالى عالم بما تكنه القلوب، قال: وبين هذا أن سبب نزول هذه الآية قول اليهود: وإنا لفي شك مما جاء به، وجعلها بمعنى إذا وكان ماضيه اللفظ والمعنى، أو مثل قول القائل: إن كنت عبدي فأطعني، فراراً من جعل ما بعد إن مستقبل المعنى وذلك ممكن، ولا تنافي بين إن كانوا في ريب فيما مضى وإن تعلق على كونهم في ريب في المستقبل، لأن الماضي من الجائز أن يستدام، بأن يظهر لمعتقد الريب فيما مضى خلاف ذلك فيزول عنه الريب، فقيل: وإن كنتم، أي: وإن تكونوا في ريب، باستصحاب الحالة الماضية التي سبقت لكم، فأتوا، وهذا مثل من يقول لولده العاق له: إن كنت تعصيني فارحل عني، فمعناه: إن تكن في المستقبل تعصيني فارحل عني، لا يريد التعليق على الماضي، ولا أن إن بمعنى إذا، إذ لا تنافي بين تقدّم العصيان وتعليق الرحيل على وقوعه في المستقبل، ولا حاجة إلى جعل ما يثبت حرفيته بمعنى إذا الظرفية.
وقد تقدّم لنا أنه لا تنافي بين قوله تعالى: {لا ريب فيه} وبين قوله: {وإن كنتم في ريب} عند الكلام على قوله: {لا ريب فيه}. وفي ريب من تنزيل المعاني منزلة الإجرام. ومن تحتمل ابتداء الغاية والسببية، ولا يجوز أن تكون للتبعيض. وما موصولة، أي من الذي نزلنا، والعائد محذوف، أي نزلناه، وشرط حذفه موجود. وأجاز بعضهم أن تكون ما نكرة موصوفة، وقد تقدم لنا الكلام على ما النكرة الموصوفة، ونزلنا التضعيف فيه هنا للنقل، وهو المرادف لهمزة النقل. ويدل على مرادفتهما في هذه الآية قراءة يزيد بن قطيب مما أنزلنا بالهمزة، وليس التضعيف هنا دالاً على نزوله منجماً في أوقات مختلفة، خلافاً للزمخشري، قال: فإن قلت لم قيل: مما نزلنا على لفظ التنزيل دون الإنزال؟ قلت: لأن المراد النزول على التدريج والتنجيم، وهو من مجازه لمكان التحدي.
وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري في تضعيف عين الكلمة هنا، هو الذي يعبر عنه بالتكثير، أي يفعل ذلك مرة بعد مرة، فيدل على هذا المعنى بالتضعيف ويعبر عنه بالكثرة. وذهل الزمخشري عن إن ذلك إنما يكون غالباً في الأفعال التي تكون قبل التضعيف متعدية، نحو: جرحت زيداً، وفتحت الباب، وقطعت، وذبحت، لا يقال: جلس زيد، ولا قعد عمرو، ولا صوم جعفر، ونزلنا لم يكن متعدياً قبل التضعيف إنما كان لازماً، وتعديه إنما يفيده التضعيف أو الهمزة، فإن جاء في لازم فهو قليل. قالوا: مات المال، وموّت المال، إذا كثر ذلك فيه، وأيضاً، فالتضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة وقوع الفعل، أما أن يجعل اللازم متعدياً فلا، ونزلنا قبل التضعيف كان لازماً ولم يكن متعدياً، فيكون التعدي المستفاد من التضعيف دليلاً على أنه للنقل لا للتكثير، إذ لو كان للتكثير، وقد دخل على اللازم، بقي لازماً نحو: مات المال، وموّت المال. وأيضاً فلو كان التضعيف في نزل مفيداً للتنجيم لاحتاج قوله تعالى: {لولا نُزِّل عليه القرآن جملة واحدة} إلى تأويل، لأن التضعيف دال على التنجيم والتكثير، وقوله: {جملة واحدة} ينافي ذلك. وأيضاً فالقراءات بالوجهين في كثير مما جاء يدل على أنهما بمعنى واحد. وأيضاً مجيء نزل حيث لا يمكن فيه التكثير والتنجيم إلا على تأويل بعيد جداً يدل على ذلك.
قال تعالى: {وقالوا لولا نزل عليه آية} وقال تعالى: {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً} ليس المعنى على أنهم اقترحوا تكرير نزول الآية، ولا أنه علق تكرير نزول ملك رسول على تقدير كون ملائكة في الأرض، وإنما المعنى، والله أعلم، مطلق الإنزال. وفي نزلنا التفات لأنه انتقال من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم، لأن قبله {اعبدوا ربكم} و{فلا تجعلوا لله أنداداً}. فلو جرى الكلام على هذا السياق لكان مما نزل على عبده، لكن في هذا الالتفات من التفخيم للمنزل والمنزل عليه ما لا يؤديه ضمير غائب، لا سيما كونه أتى بنا المشعرة بالتعظيم التام وتفخيم الأمر ونظيره، {وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا} وتعدي نزل بعلى إشارة إلى استعلاء المنزل على المنزل عليه وتمكنه منه، وأنه قد صار كالملابس له، بخلاف إلى فإنها تدل على الانتهاء والوصول.
ولهذا المعنى الذي أفادته على تكرار ذلك في القرآن في آيات، قال تعالى: {نزل عليك الكتاب بالحق} {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} {هو الذي أنزل عليك الكتاب} وفي إضافة العبد إليه تعالى تنبيه على عظيم قدره، واختصاصه بخالص العبودية، ورفع محله وإضافته إلى نفسه تعالى، واسم العبد عام وخاص، وهذا من الخاص:
لا تدعني إلا بيا عبدها *** لأنه أشرف أسمائي
ومن قرأ: على عبادنا بالجمع، فقيل: يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، قاله الزمخشري، وصار نظير قوله تعالى: أن يقولوا: {إنما أنزل الكتاب على ظائفتين من قبلنا} لأن جدوى المنزل والهداية الحاصلة به من امتثال التكاليف، والموعود على ذلك لا يختص بل يشترك فيه المتبوعون والتباع، فجعل كأنه نزل عليهم. وذلك نوع من المجاز يجعل فيه من لم يباشر الشيء إذا كان مكلفاً به منزلة من باشر، ويحتمل أن يريد به النبيين الذين أنزل عليهم الوحي، والكتب والرّسول أول مقصود بذلك، وأسبق داخل في العموم، لأنه هو الذي طلب معاندوه بالتحدي في كتابه، ويكون ذلك خطاباً لمنكري النبوات، كما قال تعالى، حكاية عن بعضهم: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} ويحتمل أن يراد بالمفرد الجمع. وتبينه هذه القراءة كقوله تعالى: {واذكر عبدنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار} في قراءة من أفرد، فيكون إذ ذاك للجنس.
فأتوا بسورة: طلب منهم الإتيان بمطلق سورة، وهي القطعة من القرآن التي أقلها ثلاث آيات، فلم يقترح عليهم الإتيان بسورة طويلة فتعنتوا في ذلك، بل سهل عليهم وأراح عليهم بطلب الإتيان بسورة ما، وهذا هو غاية التبكيت والتخجيل لهم.
فإذا كنتم لا تقدرون أنتم ولا معاضدوكم بالإتيان بسورة من مثله، فكيف تزعمون أنه من جنس كلامكم؟ وكيف يلحقكم في ذلك ارتياب أنه من عند الله؟
وقد تعرض الزمخشري هنا لذكر فائدة تفصيل القرآن وتقطيعه سوراً، وليس ذلك من علم التفسير، وإنما هو من فوائد التفصيل والتسوير. من مثله: الهاء عائدة على ما، أو على عبدنا، والراجح الأول وهو قول أكثر المفسرين ورجحانه من وجوه: أحدها: أن الارتياب أولاً إنما جيء به منصباً على المنزل لا على المنزل عليه، وإن كان الريب في المنزل ريباً في المنزل عليه بالالتزام، فكان عود الضمير عليه أولى. الثاني: أنه قد جاء في نظير هذه الآية وهذا السياق قوله: {فأتوا بسورة من مثله}، {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} {على أن يأتوا مثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} الثالث: اقتضاء ذلك كونهم عاجزين عن الإتيان، سواء اجتمعوا أو انفردوا، وسواء كانوا أميين أم كانوا غير أميين، وعوده على المنزل يقتضي كون آحاد الأدميين عاجزاً عنه، لأنه لا يكون مثله إلا الشخص الواحد الأمي. فأما لو اجتمعوا أو كانوا قارئين فلا شك أن الإعجاز على الوجه الأول أقوى، فإذا جعلنا الضمير عائداً على المنزل، فمن: للتبعيض وهي في موضع الصفة لسورة أي بسورة كائنة من مثله.
ويظهر من كلام الزمخشري تناقض في من هذه قال: من مثله متعلق بسورة صفة لها، أي بسورة كائنة من مثله فقوله متعلق بسورة يقتضي أن يكون معمولاً لها، وقوله صفة لها، أي بسورة كائنة من مثله يقتضي أن لا يكون معمولاً لها فتناقض كلامه ودافع آخره أوله، ولكن يحمل على أنه لا يريد التعلق الصناعي كتعلق الباء في نحو: مروري بزيد حسن، لكنه يريد التعلق المعنوي، أي تعلق الصفة بالموصوف، واحترز من القول الآخر أنها تتعلق بقوله: فأتوا، فلا يكون من مثله عائداً على المنزل، على ما سيأتي تبيينه إن شاء الله. وأجاز المهدوي وأبو محمد بن عطية أن تكون لبيان الجنس على تقدير أن يكون الضمير عائداً على المنزل، وتفسر المثلية بنظمه ورصفه وفصاحة معانيه التي تعرفونها، ولا يعجزهم إلا التأليف الذي خص به القرآن، أو في غيوبه وصدقه، وأجازا على هذا الوجه أيضاً أن تكون زائدة، وستأتي الأقوال في تفسير المثلية على عود الضمير إلى المنزل، إن شاء الله.
وقد اختلف النحويون في إثبات هذا المعنى لمن، والذي عليه أصحابنا أن من لا تكون لبيان الجنس، والفرق بين كونها للتبعيض ولبيان الجنس مذكور في كتب النحو. وأما كونها زائدة في هذا الموضع فلا يجوز، على مذهب الكوفيين وجمهور البصريين.
وفي المثلية على كون الضمير عائداً على المنزل أقوال: الأول: من مثله في حسن النظم، وبديع الرصف، وعجيب السرد، وغرابة الأسلوب وإيجازه وإتقان معانيه. الثاني: من مثله في غيوبه من إخباره بما كان وبما يكون. الثالث: في احتوائه على الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد، والقصص، والحكم، والمواعظ، والأمثال. الرابع: من مثله في صدقه وسلامته من التبديل والتحريف. الخامس: من مثله، أي كلام العرب الذي هو من جنسه. السادس: في أنه لا يخلق على كثرة الرد، ولا تمله الأسماع، ولا يمحوه الماء، ولا تغنى عجائبه، ولا تنتهي غرائبه، ولا تزول طلاوته على تواليه، ولا تذهب حلاوته من لهوات تاليه. السابع: من مثله في دوام آياته وكثرة معجزاته. الثامن: من مثله، أي مثله في كونه من كتب الله المنزلة على من قبله، تشهد لكم بأن ما جاءكم به ليس هو من عند الله، كما قال تعالى: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} وإن جعلنا الضمير عائداً على المنزل عليه، فمن متعلقة بقوله: فأتوا من مثل الرسول بسورة. ومعنى من على هذا الوجه ابتداء الغاية، ويجوز أن تكون في موضع الصفة فتتعلق بمحذوف. وهي أيضاً لابتداء الغاية، أي بسورة كائنة من رجل مثل الرسول، أي ابتداء كينونتها من مثله.
وفي المثلية على كون الضمير عائداً على المنزل على أقوال: الأول: من مثله من أمي لا يحسن الكتابة على الفطرة الأصلية. الثاني: من مثله لم يدارس العلماء، ولم يجالس الحكماء، ولم يؤثر عنه قبل ذلك تعاطي الأخبار، ولم يرحل من بلده إلى غيره من الأمصار. الثالث: من مثله على زعمكم أنه ساحر شاعر مجنون. الرابع: من مثله من أبناء جنسه وأهل مدرته، وذكر المثل في قوله: من مثله هو على سبيل الفرض على أكثر الأقوال التي فسرت بها المماثلة، إذا كان الضمير عائداً على المنزل، وعلى بعضها لا يكون على سبيل الفرض، وهو على قول من فسر أنه أراد بالمثل: كلام العرب الذي هو من جنسه، وأما إذا كان عائداً على المنزل عليه فليس على سبيل الفرض، لوجود أمي لا يحسن الكتابة، ولوجود من لم يدارس العلماء، ولوجود من هو ساحر على زعمهم ذلك في المنزل عليه.
واختار الزمخشري أن لا مثل ولا نظير. قال بعد أن فسر المثل على تقدير عود الضمير على المنزل: فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب وعلو الطبقة في حسن النظم، وعلى تقدير عوده على المنزل عليه، أو فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشراً عربياً أو أمياً لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء، قال الزمخشري، ولا قصد إلى مثل ونظير هنالك، ولكنه نحو قول القبعثري للحجاج، وقال له: لأحملنك على الأدهم مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب.
أراد من كان على صفة الأمير من السلطان والقوة وبسطة اليد، ولم يقصد أحداً يجعله مثلاً للحجاج. انتهى كلام الزمخشري. وعلى ما فسرت به المماثلة إذ جعل الضمير عائداً على المنزل عليه، وقد تقدم بيان وجود المثل، وعلى أنه عائد على المنزل يمكن وجوده في بعض تفاسير المماثلة. فقول الزمخشري: لا مثل ولا نظير مع تفسيره المماثلة في كونه بشراً عربياً أو أمياً لم يقرأ الكتب ليس بصحيح، لأن المماثل في هذا الشيء الخاص موجود.
ولما طلب منهم المعارضة بسورة على تقدير حصولهم في ريب من كونه من عند الله، لم يكتف بقولهم ذلك بأنفسهم، حتى طلب منهم أن يدعو شهداءهم على الاجتماع على ذلك والتظافر والتعاون والتناصر، فقال: {وادعوا شهداءكم}، وفسر هنا ادعوا: باستغيثوا. قال أبو الهيثم: الدعاء طلب الغوث، دعا: استغاث وباستحضروا دعا فلان فلاناً إلى الحاكم، استحضره، وشهداؤهم: آلهتهم، فإنهم كانوا يعتقدون أنهم يشهدون لهم عند الله، قاله ابن عباس، والسدي، ومقاتل، والفراء، أو من يشهدهم ويحضرهم من الأعوان والأنصار، قاله ابن قتيبة. وروي عن ابن عباس، أو من يشهد لكم، أن ما تأتون به مثل القرآن، روي عن مجاهد وكونه جمع شهيد أحسن من جمع شاهد لجريانه على قياس جمع فعيل نحو: هذا ولما في فعيل من المبالغة وكأنه أشار إلى أن يأتوا بشهداء بالغين في الشهادة يصلحون أن تقام بهم الحجة. {من دون الله}: تتعلق بادعوا، أي وادعوا من دون الله شهداءكم، أي لا تستشهدوا بالله فتقولوا: الله يشهد أن ما ندعيه حق، كما يقول العاجز عن إقامة البينة: بل ادعوا من الناس الشهداء الذين شهادتهم تصحح بها الدعاوى، فكأنه قال: وادعوا من غير الله من يشهد لكم، ويحتمل أن يتعلق من دون الله بشهداءكم. والمعنى: ادعوا من اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق، أو أعوانكم من دون الله، أي من دون أولياء الله الذين يستعينون بهم دون الله، أو يكون معنى من دون الله: بين يدي الله، كما قال الأعشى:
تريك القذى من دونها وهي دونه *** أي تريك القذى قدامها
وهي قدام القذى لرقتها وصفائها. وأمره تعالى إياهم بالمعارضة وبدعاء الأنصار والأعوان مع علمه أنهم لا يقدرون على ذلك أمر تهكم وتعجيز. وقد بين تعالى بعد ذلك أن ذلك لا يقع منهم سيما تفسير الشهداء بآلهتهم لأنها جماد لا تنطق فالأمر بأن يستعينوا بما لا ينطق في معارضة المعجز غاية التهكم بهم فظاهر قوله: {إن كنتم صادقين} معناه: في كونكم في ريب من المنزل على عبدنا أنه من عندنا وقيل: فيما تقتدرون عليه من المعارضة. وقد حكى عنهم في آية أخرى: {لو نشاء لقلنا مثل هذا} لكن لم يجر ذكر المعارضة في هذه الآية إلا أن كونهم في ريب يقتضي عندهم أنه ليس من عند الله وما لم يكن من عند الله فهو عندهم تمكن معارضته فيحتمل أن يكون المعنى: إن كنتم صادقين في القدرة على المعارضة.
ولما كان أمره تعالى إياهم بالإتيان بسورة من مثله أمر تهكم وتعجيز لأنهم غير قادرين على ذلك، انتقل إلى إرشادهم، إذ ليسوا بقادرين على المعارضة، وأمرهم باتقاء النار التي أعدت لمن كذب، وأتى بإن، وإن كان من مواضع إذا تهكماً بهم، كما يقول القائل: أن غلبتك لم أبق عليك، وهو يعلم أنه غالب، أو أتى بإن على حسب ظنهم، وإن المعجز منهم كان قبل التأمل، كالمشكوك فيه عندهم لاتكالهم على فصاحتهم. ومعنى: {فإن لم تفعلوا} فإن لم تأتوا، وعبر عن الإتيان بالفعل، والفعل يجري مجرى الكناية، فيعبر به عن كل فعل، ويغنيك عن طول ما تكنى عنه. قال الزمخشري: لو لم يعدل عن لفظ الإتيان إلى لفظ الفعل لاستطيل أن يقال: فإن لم تأتوا بسورة من مثله، ولن تأتوا بسورة من مثله، ولا يلزم ما قال الزمخشري، لأنه لو قيل: فإن لم تأتوا ولن تأتوا، كان المعنى على ما ذكر ويكون قد حذف ذلك اختصاراً، كما حذف اختصاراً مفعول لم تفعلوا ولن تفعلوا. ألا ترى أن التقدير: فإن لم تفعلوا الإتيان بسورة من مثله ولن تفعلوا لإتيان بسورة من مثله فهما سيان في الحذف؟ وفي كتاب ابن عطية تعليل غريب لعمل لم الجزم، قال: وجزمت لم لأنها أشبهت لا في التبرئة في أنهما ينفيان، فكما تحذف لا تنوين الاسم، كذلك تحذف لم الحركة أو العلامة من الفعل.
وفي قوله: {ولن تفعلوا} إثارة لهممهم ليكون عجزهم بعد ذلك أبلغ وأبدع، وفي ذلك دليلان على إثبات النبوة. أحدهما: صحة كون المتحدي به معجزاً، الثاني: الإخبار بالغيب من أنهم لن يفعلوا، وهذا لا يعلمه إلا الله تعالى، ويدل على ذلك أنهم لو عارضوه لتوفرت الدواعي على نقله خصوصاً من الطاعنين عليه، فإذا لم ينقل دل على أنه إخبار بالغيب وكان ذلك معجزه. وأما ما أتى به مسيلمة الكذاب في هذره، وأبو الطيب المتنبي في عبره ونحوهما، فلم يقصدوا به المعارضة، إنما ادعوا أنه نزل عليهم وحي بذلك، فأتوا من ذلك باللفظ الغث، والمعنى السخيف، واللغة المهجنة، والأسلوب الرذل، والفقرة غير المتمكنة، والمطلع المستقبح، والمقطع المستوهن، بحيث لو قرن ذلك بكلامهم في غير ما ادّعوا أنه وحي، كان بينهما من التفاوت في الفصاحة والتباين في البلاغة ما لا يخفى عمن له يسير تمييز في ذلك. فكيف الجهابذة النقاد والبلغاء الفصحاء، فسلبهم الله فصاحتهم بادعائهم وافترائهم على الله الكذب. وقوله: {ولن تفعلوا} جملة اعتراض، فلا موضع لها من الإعراب، وفيها من تأكيد المعنى ما لا يخفى، لأنه لما قال: فإن لم تفعلوا، وكان معناه نفي في المستقبل مخرجاً ذلك مخرج الممكن، أخبر أن ذلك لا يقع، وهو إخبار صدق، فكان في ذلك تأكيد أنهم لا يعارضونه.
واقتران الفعل بلن مميز لجملة الإعتراض من جملة الحال، لأن جملة الحال لا تدخل عليها لن، وكان النفي بلن في هذه الجملة دون لا، وإن كانتا أختين في نفي المستقبل، لأن في لن توكيداً وتشديداً، تقول لصاحبك: لا أقيم غداً، فإن أنكر عليك قلت: لن أقيم غداً، كما تفعل في: أنا مقيم، وإنني مقيم، قاله الزمخشري، وما ذكره هنا مخالف لما حكي عنه أن لن تقتضي النفي على التأبيد. وأما ما ذهب إليه ابن خطيب زملكي من أن لن تنفي ما قرب وأن لا يمتد النفي فيها، فكاد يكون عكس قول الزمخشري.
وهذه الأقوال، أعني التوكيد والتأبيد ونفي ما قرب: أقاويل المتأخرين، وإنما المرجوع في معاني هذه الحروف وتصرفاتها لأئمة العربية المقانع الذين يرجع إلى أقاويلهم. قال سيبويه، رحمه الله: ولن نفي لقوله: سيفعل، وقال: وتكون لا نفياً لقوله: تفعل، ولم تفعل، انتهى كلامه. ويعني بقوله: تفعل، ولم تفعل المستقبل، فهذا نص منه أنهما ينفيان المستقبل إلا أن لن نفي لما دخلت عليه أداة الاستقبال، ولا نفي للمضارع الذي يراد به الاستقبال. فلن أخص، إذ هي داخلة على ما ظهر فيه دليل الاستقبال لفظاً. ولذلك وقع الخلاف في لا: هل تختص بنفي المستقبل، أم يجوز أن تنفي بها الحال؟ وظاهر كلام سيبويه، رحمه الله، هنا أنها لا تنفي الحال، إلا أنه قد ذكر في الاستثناء من أدواته لا يكون ولا يمكن حمل النفي فيه على الاستقبال لأنه بمعنى إلا، فهو للإنشاء، وإذا كان للإنشاء فهو حال، فيفيد كلام سيبويه في قوله: وتكون لا نفياً لقوله يفعل، ولم يفعل هذا الذي ذكر في الاستثناء، فإذا تقرر هذا الذي ذكرناه، كان الأقرب من هذه الأقوال قول الزمخشري: أولاً: من أن فيها توكيداً وتشديداً لأنها تنفي ما هو مستقبل بالأداة، بخلاف لا، فإنها تنفي المراد به الاستقبال مما لا أداة فيه تخلصه له، ولأن لا قد ينفى بها الحال قليلاً، فلن أخص بالاستقبال وأخص بالمضارع، ولأن ولن تفعلوا أخصر من ولا تفعلون، فلهذا كله ترجيح النفي بلن على النفي بلا.
فاتقوا النار: جواب للشرط، وكنى به عن ترك العناد، لأن من عاند بعد وضوح الحق له استوجب العقاب بالنار. واتقاء النار من نتائج ترك العناد ومن لوازمه. وعرف النار هنا لأنه قد تقدم ذكرها نكرة في سورة التحريم، والتي في سورة التحريم نزلت بمكة، وهذه بالمدينة. وإذا كررت النكرة سابقة ذكرت ثانية بالألف واللام، وصارت معرفة لتقدمها في الذكر ووصفت بالتي وصلتها.
والصلة معلومة للسامع لتقدم ذكر قوله: {ناراً وقودها الناس والحجارة} أو لسماع ذلك من أهل الكتاب قبل نزول الآية، والجمهور على فتح الواو. وقرأ الحسن باختلاف، ومجاهد وطلحة وأبو حياة وعيسى بن عمر الهمداني بضم الواو. وقرأ عبيد بن عمير وقيدها على وزن فعيل. فعلى قراءة الجمهور وقراءة ابن عمير هو الحطب، وعلى قراءة الضم هو المصدر على حذف مضاف، أي ذو وقودها لأن الناس والحجارة ليسا هما الوقود، أو على أن جعلوا نفس الوقود مبالغة، كما يقول: فلان فخر بلده، وهذه النار ممتازة عن غيرها بأنها تتقد بالناس والحجارة، وهما نفس ما يحرق، وظاهر هذا الوصف أنها نار واحدة ولا يدل على أنها نيران شتى قوله تعالى: {قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة} ولا قوله تعالى: {فأنذرتكم ناراً تلظى} لأن الوصف قد يكون بالواقع لا للامتياز عن مشترك فيه، والناس يراد به الخصوص ممن شاء الله دخولها، وإن كان لفظه عاماً، والحجارة الأصنام، وكانا وقوداً للنار مقرونين معاً، كما كانا في الدنيا حيث نحتوها وعبدوها آلهة من دون الله. ويوضحه قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حَصَبُ جهنم} أو حجارة الكبريت، روي ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس، وابن جريج. واختصت بذلك لما فيه من سرعة الالتهاب، ونتن الرائحة، وعظم الدخان، وشدة الالتصاق بالبدن، وقوة حرها إذا حميت. وقيل: هو الكبريت الأسود، أو حجارة مخصوصة أعدت لجهنم، إذا اتقدت لا ينقطع وقودها. وقيل: إن أهل النار إذا عيل صبرهم بكوا وشكوا، فينشئ الله سحابة سوداء مظلمة، فيرجون الفرج، ويرفعون رؤوسهم إليها، فتمطر عليهم حجارة عظاماً كحجارة الرحى، فتزداد النار إيقاداً والتهاباً أو الحجارة ما اكتنزوه من الذهب والفضة تقذف معهم في النار ويكوون بها. وعلى هذه الأقوال لا تكون الألف واللام في الحجارة للعموم بل لتعريف الجنس. وذهب بعض أهل العلم إلى أنها تجوز أن تكون لاستغراق الجنس، ويكون المعنى أن النار التي وعدوا بها صالحة لأن تحرق ما ألقي فيها من هذين الجنسين، فعبر عن صلاحيتها واستعدادها بالأمر المحقق، قال: وإنما ذكر الناس والحجارة تعظيماً لشأن جهنم وتنبيهاً على شدّة وقودها، ليقع ذلك من النفوس أعظم موقع، ويحصل به من التخويف ما لا يحصل بغيره، وليس المراد الحقيقة.
وما ذهب إليه هذا الذاهب من أن هذا الوصف هو بالصلاحية لا بالفعل غير ظاهر، بل الظاهر أن هذا الوصف واقع لا محالة بالفعل، ولذلك تكرر الوصف بذلك، وليس في ذلك أيضاً ما يدل على أنها ليس فيها غير الناس والحجارة، بدليل ما ذكر في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها، وقدم الناس على الحجارة لأنهم العقلاء الذين يدركون الآلام والمعذبون، أو لكونهم أكثر إيقاداً للنار من الجماد لما فيهم من الجلود واللحوم والشحوم والعظام والشعور، أو لأن ذلك أعظم في التخويف.
فإنك إذا رأيت إنساناً يحرق، أقشعرّ بدنك وطاش لبك، بخلاف الحجر. قال ابن عطية: وفي قوله تعالى: {أعدّت} ردّ على من قال: إن النار لم تخلق حتى الآن، وهو القول الذي سقط فيه منذر بن سعيد، انتهى كلامه. ومعناه أنه زعم أن الإعداد لا يكون إلا للموجود، لأن الإعداد هو التهيئة والإرصاد للشيء، قال الشاعر:
أعددت للحدثان سابغة وعداءً علندا *** أي هيأت
قالوا: ولا يكون ذلك إلا للموجود. قال بعضهم: أو ما كان في معنى الموجود نحو قوله تعالى: {أعدّ الله لهم مفغرة وأرجراً عظيماً} ومنذر الذي ذكره ابن عطية كان يعرف بالبلوطي وكان قاضي القضاة بالأندلس وكان معتزلياً في أكثر الأصول ظاهرياً في الفروع وله ذكر ومناقب في التواريخ وهو أحد رجالات الكمال بالأندلس. وسرى إليه ذلك القول من قول كثير من المعتزلة وهي مسألة تذكر في أصول الدين وهو: أن مذهب أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان على الحقيقة. وذهب كثير من المعتزلة والجهمية والنجاومية إلى أنهما لم يخلقا بعد وأنهما سيخلقان. وقرأ عبد الله اعتدت: من العتاد بمعنى العدة. وقرأ ابن أبي عبلة: أعدها الله للكافرين ولا يدل إعدادها للكافرين على أنهم مخصوصون بها كما ذهب إليه بعض المتأولين من أن نار العصاة غير نار الكفار بل إنما نص على الكافرين لانتظام المخاطبن فيهم إذ فعلهم كفر. وقد ثبت في الحديث الصحيح إدخال طائفة من أهل الكبائر النار لكنه اكتفى بذكر الكفار تغليباً للأكثر على الأقل أو لأن الكافر لن يشتمل من كفر بالله وكفر بأنعمه أو لأن من أخرج منها من المؤمنين لم تكن معدة له دائماً بخلاف الكفار. والجملة من قوله: أعدت للكافرين في موضع الحال من النار والعامل فيها: فاتقوا قاله أبو البقاء وفي ذلك نظر لأن جعله الجملة حالاً يصير المعنى: فاتقوا النار في حال إعدادها للكافرين وهي معدّة للكافرين اتقوا النار أو لم يتقوها فتكون إذ ذاك حالاً لازمة. والأصل في الحال التي ليست للتأكيد أن تكون منتقلة والأولى عندي أن تكون الجملة لا موضع لها من الإعراب وكأنها سؤال جواب مقدّر كأنه لما وصفت بأن وقودها الناس والحجارة قيل: لمن أعدت؟ فقيل: أعدت للكافرين.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8